أبو يوسف يعقوب المنصور (العصر الذهبي للدولة الموحدية)
هو
يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن بن علي، ويكنى أبا يوسف، ثالث الخلفاء
الموحدين اشتهر بحب العلم واحترام العلماء. وقد وصفه أحمد بابا التنبكتي
بأنه "كان غاية في العلم والتفنن" وأكثر اهتمامه كان بالقرآن والحديث،
وبلغ من اهتمامه بهما أنه أمر جماعة من العلماء بجمع أحاديث من المصنفات
المعتبرة في الحديث تتعلق بمسائل الفقه، وجعل يعلمها للناس بنفسه ويأخذهم
بحفظها.
وكان
المنصور شديد العناية بطلبة العلم وخاصة علم الحديث، فقد نالوا عنده من
الحظوة ما لم ينالوا في أيام أبيه وجده، مما جعل بعض الموحدين يحسدونهم
على موضعهم منه وتقريبه إياهم، ولما علم بذلك منهم قال يوما بحضرة كافة
الموحدين: يا معشر الموحدين، أنتم قبائل، فمن نابه منكم أمر فزع إلى
قبيلته، وهؤلاء الطلبة لا قبيل لهم إلا أنا، فمهما نابهم أمر فأنا ملجؤهم،
والي فزعهم والي ينتسبون"
ولي الوزارة أيام أبيه فبحث عن الأمور، وطالع أحوال العمال والولاة والقضاة وغيرهم، فدبرها بحسب ذلك، وحسبما يقتضيه الزمان والإقليم.
ولما مات أبو يعقوب جدد المصامدة البيعة لابنه أبي يوسف والناس عامة. وكان
من أوائل من سعى إلى بيعته ابن عمه أبو زيد عبد الرحمن بن عمر بن عبد
المؤمن، فتم له الأمر وبايعه الناس.
وفي عهد أبي يوسف المنصور، بلغت الدولة الموحدية أوج ازدهارها، حيث تعتبر
السنوات الخمس عشرة التي حكمها العصر الذهبي للدولة الموحدية، والذروة
التي وصل إليها التطور السياسي في المغرب نحو إقامة الدول الكبرى في
العصور الوسطى.
قام بمجهودات كبيرة من أجل الحفاظ على الوحدة الترابية للدولة الموحدية،
كما قام بحملات عسكرية في اتجاه الأندلس، حيث اجتاز البحر إلى الأندلس عدة
مرات صد فيها عدوان الإسبان وكان آخرها عام 591هـ في الوقعة التي هزم فيها
ألفونسو الثامن هزيمة منكرة وعرفت بوقعة (الأرك) 479هـ.
كما كان اهتمامه متجها إلى عملية التشييد والبناء، ولعل من أبرز المآثر
التي خلفها بناؤه لمدينة الرباط. ويروي المراكشي قصة بناء هذه المدينة حيث
يقول: " ثم شرع في بنيان المدينة العظمى التي على ساحل البحر والنهر من
العدوة التي تلي مراكش، وكان أبو يعقوب ـ رحمه الله ـ هو الذي اختطها ورسم
حدودها وابتدأ في بنيانها، فعاقه الموت المحتوم من إتمامها، فشرع أبو يوسف
ـ كما ذكرناـ في بنيانها على أن أتم سورها، وبنى فيها مسجدا عظيما كبير
المساحة واسع الفناء جدّا، لا أعلم في مساجد المغرب أكبر منه، وعمل له
مئذنة في نهاية العلوّ، على هيئة منار الإسكندرية، يصعد فيه بغير درج، ...
ولم يتم هذا المسجد إلى اليوم..."
كما اهتم بالجانب العلمي والفكري، حيث دعا إلى ضرورة إهمال كتابات المهدي
والاكتفاء بالدراسة المباشرة للنصوص القرآنية والحديثية. وهو ما نص عليه
عبد الواحد المراكشي في خبر رواه في كتاب المعجب: "وبعد ذلك –أي موقعة
الأرك- كان إقدام أبي يوسف يعقوب المنصور على صرف الناس عن كتب الفروع،
وهي الأسس التطبيقية لمذهب مالك، فأمر بالعودة إلى الكتاب والسنة وترك كتب
المذهب والتي كان خصوم المذهب المالكي يسمونها بكتب الفروع، أي كتب
التفاصيل التطبيقية التي كان معظم الفقهاء يقتصرون عليها وعلى تطبيق ما
فيها دون تكليف أنفسهم الرجوع إلى أصول الشريعة وهي الكتاب والسنة، فكان
معظمهم لذلك مقلدين قد استغنوا بالتقليد عن الاجتهاد، فأمر بإحراق كتب
المذهب بعد أن يجرد ما فيها من القرآن وحديث رسول الله صلى الله عليه
وسلم، ففعل ذلك فأحرق منها جملة في سائر البلاد كمدونة سحنون وكتاب (أبي)
سعيد بن يونس، ونوادر ابن أبي زيد ومختصره، وكتاب التهذيب للبرادعي،
وواضحة ابن حبيب، وما جانس هذه الكتب ونحا نحوها.
ويضيف المراكشي بعد ذلك قائلا: "فكان قصده في الجملة محو مذهب مالك
وإزالته من المغرب مرة واحدة، وحمل الناس على الظاهر من القرآن والحديث
وهذا المقصد بعينه كان مقصد أبيه وجده إلا أنهما لم يظهراه وأظهره يعقوب
هذا"
وربما كان مقصد أبي يعقوب المنصور هو صرف الناس عن الانكباب والاهتمام
بكتب الفروع التي لا تحتوي سوى أحكام جامدة، وليس بالضرورة القضاء على
المذهب المالكي كما رام المراكشي إثباته. وما زال يشيد ويبني حتى توفي سنة
595.